لم يكن مدرس التاريخ عبد العال الديداموني يعلم أن التاريخ الذي درَّسه لطلابه على مدى سنوات طوال، سيسجل اسمه في واحدة من أكثر صفحاته دموية في بَرّ مصر، إذ كُتب عليه أن يكون أحد ضحايا مذبحة رابعة التي لم يشهد تاريخ مصر مثيلا لها، برصاصة في رأسه، لا لشيء إلا أنه كان ينادي بالحرية والديمقراطية.
عبد العال الديداموني من مواليد قرية إكراش في مركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية، عمل مدرسا للتاريخ بالتربية والتعليم، وقتل في فض اعتصام رابعة العدوية 14 أغسطس 2013 عن 47 عاما، تاركا ابنه الوحيد عليّ.
يسرد والده الحاج الديداموني صفات ابنه ويقول “أحتسب ابني شهيدًا، فقد كانت فيه الكثير من الصفات الحميدة والجميلة، مثل الحلم والأناة والرأفة، وكان يكافح في سبيل العيش الحلال، وكان مدرسًا ممتازًا في عمله يمارسه بحب وإخلاص، وكان محبوبًا في بلده وعائلته”.
أما زوجته السيدة فيفي خليل فتقول: “كنت كلما سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، أشعر كأن الحديث ينطبق على زوجي؛ فمهما أقول لن أوفيه حقه، فقد كان كريمًا في معاملته معي وعلى خُلق ولا يحمل ضغينة لأحد في قلبه ولا حقدًا حتى لألدِّ أعدائه”… وتقول السيدة فيفي عن زوجها: “إنه لم يحمل سلاحًا قط، كما كان يقول الإعلام؛ كيف يكذب الإعلام ويقول إن معتصمي رابعة كانوا مسلحين؟! نحن لم نرَ هذا السلاح في حياتنا إلا في التلفاز فقط، فكل مَن كان في رابعة كان يتخذ نهج السلمية وشعارهم: “لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ”.
وتقول شقيقته منى إن أخاها كان خير شقيق وصديق، “فقد كان بالنسبة لي أغلى إنسان في حياتي، وكان يشعرني أنه قريب مني، وكنت أحكي له كل أسراري وهمومي”.
وتؤكد أنهم على الرغم من حزنهم على فراقه، فإنهم سعداء لنيله الشهادة وأنه ارتقى إلى الله شهيدًا لأنه كان يطلبها ويتمناها.
وتحكي شقيقته صباح أنه لم يكن مجرد شقيق لها بل كان “أخًا حنونًا وكان كل شيء في حياتها، وأن الصفات التي كان يتحلى بها أخوها لا يمكن أن تكون في إرهابي كما يدَّعون”. وتتابع “رأيت رؤيا: كأن دائرة كبيرة حول رابعة، ثم استيقظت على فض الميدان، فاتصلت بشقيقي لأطمئن عليه فلم يرد، فاتصلت بزوجته وأخبرتني أنه في الميدان وبخير، لكن كلما رأيت مشاهد الموت كنت أشعر بالقلق وكأني سأسمع خبر وفاته، وبعد العصر جاءنا الخبر”.
وعن يوم مقتله تقول زوجته: “فتحت التلفاز صباح يوم الفضّ فسمعت خبر تقدم القوات لمحاصرة رابعة، فأيقظته من النوم، وكان قد عاد من الاعتصام قبل يومين، وقلت له لقد بدأ الفضّ، وأحمد الله أنك لم تكن هناك”.
وتتابع “بعدما شاهدنا ما يحدث من قتل المعتصمين، قرر أن يذهب مع الناس لنصرة إخوانهم في رابعة، ورجوته ألا يذهب وقلت له إنني أشعر أنك لن تعود، فقال لا يمكنني أن أتركهم وحدهم”.
وتضيف زوجته “كنت على اتصال به حتى الظهر وبعدها انقطع الاتصال، ثم اتصلت صديقتي بزوجها، فأخبرها أن عبد العال استشهد، لكنها لم تستطع أن تخبرني وقالت فقط إنه قد أصيب، لكني لم أصدق وبقيت قلقة، وحاولت الاتصال به لكن هاتفه كان مغلقًا، فاتصلت بصديقه، فقال لي: إنه استشهد”.
ويحكي صديقه عبد الخالق أبو زيد قصة وفاته: “كنا معًا بعدما سمعنا خبر فضّ الاعتصام، وتحركنا للميدان في مجموعات حتى لا يندس بيننا البلطجية، ووقفت معه أثناء الفضّ، وفجأة أُصيب بطلق ناري في الجبهة من فوق مبنى المخابرات الموجود في رابعة من على بُعد حوالي 300 متر ووقع على الأرض، فنظرت للخلف ظنًا أنه يحاول تفادى الرصاصة، لكن وجدته قد أصيب ووجهه تعلوه الابتسامة”.
ويضيف “كان عبد العال يصبرنا في المواقف الصعبة، وكان حسن الخلق والسيرة، كان الأستاذ نِعم الصديق، لا أستطيع أن أصفهم هو ومَن كانوا معه في الاعتصام إلا بالملائكية”.
ويصف ابنه علي علاقته بأبيه أنها “لم تكن علاقة بين الأب وابنه، بل كانت علاقة كما بين الصديق وصديقه”. وقد علم علي بوفاة والده بعد الانتهاء من صلاة العصر عندما اتصل به شخص، وقال له “إن والدك استشهد، فقلت لهم: هل آتي إليكم أم ستأتون به، فقال لي سنأتي به. ولكنني لم أتحمل، فأردت الذهاب إلى رابعة، لكن أقاربي لم يسمحوا لي”.
ويكمل علي: “ظلوا يبحثون عن جثمان أبي من يوم الفض عصرًا حتى مساء اليوم التالي، فقال لهم جدي لا ترهقوا أنفسكم، وسلموا أمركم لله… حتى اتصل أحد الأشخاص من مستشفى شبرا الخيمة العام بهاتف أحد أصدقائنا وجده مكتوبًا على كفن أبي، فذهب أقرباؤنا واستلموا الجثمان”.
ويتذكر عليّ ما كان يقوم به والده، فيقول: “كنت في مرحلة الثانوية العامة، وكان أبي يعاونني دائمًا ويسهر بجانبي ويدعو الله أن يوفقني، كنا نلعب مع بعضنا حتى يريحني من المذاكرة، كان خير رفيق لي كأنه صديقي، كان يوقظني كل يوم لصلاة الفجر ويعطيني هدايا لتشجيعي على الصلاة، كان عندما يأتي إلى البيت يعانقني بحب يشعرني وكأنه يراني أول مرة، كان دائمًا يُحفزني على المذاكرة، ويشدد في كلامه لي على أمرين: مصر تحتاج إلى العلماء، ونريد أناسًا يفهمون دينهم”.
ويختم عليّ كلامه “حين أشارك في الفعاليات وأقول الهتاف (وحياة دمك يا شهيد) لم يكن يخرج من لساني بقدر ما يخرج من قلبي، وأرجو أن يعيننا الله لنأتي بحق أبي، وحق كل الشهداء”.
وخلّفت مذبحة فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة التي وقعت يوم 14 أغسطس 2013 مئات الشهداء والمصابين، ولا يوجد إحصاء كامل حتى اليوم بالأعداد الحقيقية لضحايا المذبحة.