“ودعوني لأني لن أعود مرة أخرى.. انظروا لي جيدا فيوما ما سأعود جثة هامدة”.. كانت هذه الكلمات مما اعتاد بطل قصتنا أن يودع بها والدته وإخوته، وربما خرجت في صورة دعابة، إلا أن الأم تؤكد أنه كان يقصدها، وقد كان.
صلاح عادل أبو حميدة (21 عاما) طالب بالفرقة الثانية في كلية اللغة العربية والإعلام بجامعة الأزهر، قتل برصاصة في القلب أثناء مشاركته في تظاهرة مناهضة للانقلاب بمنطقة النزهة في مدينة نصر بالقاهرة.
كان حسب والده، شابا مثالا للشباب الطموح، سواء في تدينه والتزامه، أو في علاقته بأهله وأصحابه، وكذلك في جانب تثقيفه لنفسه، وقد سماه صلاحا تيمنا بصلاح الدين الأيوبي.
لم يكن كالكثير من شباب جيله، ممن يهتمون بسفاسف الأمور والهش منها والسطحي، بل كان صاحب قضية ومبادرا في فعل الخير.
يحكي والده قصة استشهاده، حيث أتاه اتصال من هاتف ابنه، ليخبره شخص بأن صاحب الهاتف تلقى طلقة خلال مشاركته في مسيرة أعلى كوبري النزهة، بمدينة نصر، والتي كانت متجهة صوب ميدان رابعة العدوية بهدف الوصول إليه.
يحكي الوالد المكلوم عن ملابسات استشهاد ولده، وكيف أنه كان مقداما يتقدم الصفوف في أي مسيرة يشارك فيها، وكان لاهتمامه بالمجال الإعلامي كونه طالب بكلية اللغة العربية والإعلام في جامعة الأزهر، ينقل تلك المسيرات بالبث المباشر لها عبر الشاشات الحريصة على نقل تلك الفعاليات.
كان هدف المشاركين في المسيرة التي كان فيها صلاح، دخول ميدان رابعة العدوية، وبينما هو في مقدمة الصفوف برفقة عدد من قريباته، وفي الفترة ما بين صلاتي العصر والمغرب يوم الجمعة 22 نوفمبر 2013، أطلقت قوات الأمن الغاز بكثافة، كما قامت مدرعة بإطلاق الرصاص تجاه المتظاهرين، فكان نصيب صلاح رصاصة اخترقت جسده.
وخلال محاولة والده الوصول إلى مكانه، تلقى اتصالا آخر يبلغه بأن ابنه نقل إلى مستشفى هيليوبلس، وما إن وصل إلى هناك حتى وجد جثة ابنه بمغسلة المستشفى بعد أن فارقته الحياة، وهو مصاب بطلقة من الجانب الأيمن خرجت من الجانب الأيسر.
يقول الوالد، “سلمت الأمر لله ثم بدأنا الإجراءات المطلوبة، ليصلنا عرض غير مباشر من مأمور قسم النزهة، يطلب منه الموافقة على أن يكتب بأن سبب الوفاة هبوط في الدورة الدموية، وحاول عدد من الأسرة حثه على القبول للعمل على استلام الجثة ودفنها”.
توجه الوالد لوكيل النيابة يسأله في استنكار وهو مشرف على هذه المحاولات، هل سترضى بأن يمرر الأمر بهذه الصورة، وعلى فرض وافقت، فماذا يكون ردي على ربي حين يسألني عن دم ابني وهو مضروب بطلقة.
رفض الوالد تلك المحاولات، وأصر على أن يثبت في تقرير الطب الشرعي أن الوفاة كان سببها طلق ناري، واتهم في محضر النيابة الأمن بقتل لابن، لكنه أسف لإصدار وزارة الصحة شهادة الوفاة دون تحديد سبب لها رغم أن تقرير الطب الشرعي أثبت مقتله بطلق ناري.
يقول والده، إن كان يتوقع استشهاد صلاح في أي لحظة، وكان يرد على من يحرضه من أهله على منعه من النزول والمشاركة في المسيرات، في ظل كثرة سقوط الشهداء، بأنه يعتبر من يموتون مثل ابنه تماما، ومن ثم فحزنه عليهم كما لو أنه فقد ابنه، مضيفا، لو عاد صلاح مرة أخرى سأقول له انزل وشارك.
يقول والده، إنه ممن يعملون في تغسيل الموتى، وقد وجد في وجه ابنه نورا لم يره في غسل من قبل، ما طمأنه وربط على قلبه، كما يشير إلى بشريات كثيرة أتته في شكل رؤى هو وأم صلاح وجدته، تبشره بأن ابنه شهيد عند الله.
تستذكر والدته مروة محمد، سيرته الطيبة وحسن خلقه، وتقول إنه كان زينة الشباب، واسما على مسمى، فهو صلاح لنفسه ولغيرة، وكان قد نشأ في طاعة الله، وترى أن من اتهمه بالإرهاب هم الإرهابيون بحق.
كان صلاح ممن شاركوا في ثورة يناير، وكذلك ممن اعتصم بميدان رابعة العدوية، واستمر فيه حتى يوم الفض، وشارك خلال هذا اليوم في إسعاف المصابين وحمل الجثث، وحين عاد إلى منزله، كانت ملابسه غرقى بالدماء، وظاهرا عليها أثر الخرطوش.
تقول أم صلاح، إنها كغيرها من الأمهات، تخاف على ابنها، وكانت أحيانا تحاول إثناءه عن المشاركة في المسيرات، حتى في اليوم الذي استشهد فيه، وحين أصر قالت له خذني معك، لكنه اعتذر منها.
كان صلاح يحب عمل الخير منذ صغره، ويسعى في خدمة الآخرين، ما جعله محبوبا بين أقرانه وفي محيطه.
تقول الأم المكلومة، كان من آخر ما تحدثنا فيه سويا تفاصيل عرسه وتجهيز شقته وكان الترتيب أن يكون فرحه بعد نهاية امتحاناته بيوم، وكان يحدثني في حماسة عن نيته بأن يحيي فرحه في شارعنا بشكل ثوري يظهر فيه انحيازه التام لمواقفه ضد الانقلاب العسكري.
ومما تتذكره أمه، كيف أنه في أحيان كثيرة، كان يودعهم وهو خارج للمشاركة في المسيرات بقوله، “ودعوني عشان خاطر أنا مش راجع تاني.. بصولي أنا ما بهزرش.. بس إوعى حد يصوت علي، يوما سأرج لكم جثة هامدة”.
فيما تحكي شقيقته سارة، عن طبعه وكيف أنه كان يحب المزاح مع جميع أفراد أسرته، وآخر ما تحدث به معهم ترتيباته لعرسه الذي كان قد حددوا موعده بعد امتحاناته التي كانت على وشك أن يبدأ فيها.
أما شقيقه الأصغر أبو بكر، فيقول إنه كان يكن احتراما كبيرا لأخيه صلاح، لما كان يمثل له من قدوة، كما كان يساعده في استذكار دروسه وحفظ القرآن الكريم.
كانت جنازته مهيبة شهدت مشاركة حاشدة من أهل بلدته ومن زملائه في الجامعة، وردد المشاركون فيها هتافات غاضبة، كما تتابعت الوقفات أمام منزله دعما لأسرته