شريف رضوان.. أحسن إليهم فقتلوه

لم تمض ساعات على جداله مع أشقائه حول سبب إحسانه لهم، ومدى استحقاقه له، حتى عاجلته رصاصات غادرة، كان جمعهم هو مصدرها، ففاضت روحه، تشكو لبارئها شر من أحسنت إليه.

شريف رضوان (31 عاما) الشاب الودود، ابن مدينة السويس الباسلة، مهد الثورة ووقودها، أحد شهداء جمعة الغضب، الذين أبقوا جذوة ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني متقدة في عقول وأفئدة شبابها، حتى آتت بعض أكلها بعد حين.

كان شريف أحد شباب مدينة السويس، الذين رغم عدم انشغالهم بالسياسة واهتمامهم بها، وجدوا في 25 يناير إرهاصات التغيير وولد لديهم الأمل في أن يثمر حراك شباب مصر حياة كريمة وظهورا للحق والصدق وأربابهما، فعقد العزم مع أقرانه من الشباب على الانضمام لركبها والانتظام في صفوف شبابها.

يحكي شقيقه تامر، كيف أنه رغم انشغاله بأسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة، كان يخبره مع انطلاق الدعوات للخروج يوم الخامس والعشرين من يناير، عن نيته المشاركة فيها، ويشحذ همته لذلك، ولم يكن حريصا على كشف تلك النية، خوفا من ظهور أسباب لتثبيط همته عنها.

ومع الساعات الأولى ليوم الثورة، خرج شريف مع بعض أشقائه، وانضموا إلى ركب الزمرة الأولى التي بدأت كشرارة لثورة المصريين، ولم ترهبهم جحافل قوات الأمن التي حاول نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك وأد الثورة بها في مهدها، بل زاد ذلك من العزم وأشعل نار الغضب في قطاع أوسع.

عاد شريف إلى منزله في يوم الثورة الأول بعد ساعات من الكر والفر، ليريح جسده المرهق، إلا أن الأمل الذي استيقظ لديه ما كان لينام أو يركن، فعقد العزم على العود والاستمرار حتى تحقيق الهدف.

وبينما هو رفقة أشقائه بشوار السويس المشتعلة، وفي اليوم الذي سبق جمعة الغضب، مروا بإحدى تجمعات قوات الأمن المركزي التي حشدها النظام لمواجهة شباب الثورة، فنظر إليهم شريف نظرة مشفق، ثم غاب عن أشقائه بعضا من الوقت، ليعود وفي يديه أكياس الطعام والشراب، ليفاجئ إخوته بتقديمها لعساكر الأمن.

وفي ذهول، أبدى الأشقاء دهشتهم وشيئا من الاعتراض على صنيع شقيقهم شريف، وقالوا له كيف تقوم بما قمت به لمن يواجهوننا في ميدان الثورة ويحولون بيننا وبين أحلامنا ويشاركون في وأد تطلعاتنا ومنع استخلاص حقوقنا.

لكن جواب من باتت ساعات حياته معدودة كان حاضرا، فهؤلاء في تقديره لا ذنب لهم ولا ينبغي أخذهم بجريرة قادتهم ومحركيهم، هم “غلابة” حسب التعبير الذي ساقه لأشقائه، ولم يثنه اندهاشهم واستنكار بعضهم عن المضي في توزيع ما حملته الأكياس على أفراد الأمن المندهشين بدورهم كذلك.

في جمعة الغضب، كان شريف صباحا في شركة السويس لتصنيع البترول، حيث يعمل فيها كهربائيا، وقبل صلاة الجمعة أخذ الإذن بالانصراف والاكتفاء بالعمل نصف يوم، والتحق بأشقائه قبل صلاة الجمعة، وأذهل أحدهم حرصه على أن يحضنه رغم أنه كان برفقته مساء اليوم السابق، وكأنه كان يستعد للرحيل.

شهد اليوم انتفاضة عارمة عززت آمال شريف وأمثاله من شباب الثورة في إمكانية التغيير، ومن ثم لم ترهبهم قنابل الغاز ولا زخات الخرطوش، إلى أن بدأ الرصاص الحي يحصد عددا من المشاركين، فاختبأ شريف مع أحد أشقائه بمدخل أحد الأبنية انتظارا لهدوء الأجواء.

تحين الشقيقان الفرصة المناسبة، وخرجا سعيا للبعد عن أماكن الخطر، لكن شريف تعثر أثناء ركضه وسقط، لتأتيه رصاصة غادرة، ويكون آخر ما تشهده عينه بحسرة، استسلام الجنود “الغلابة” لتعليمات قادتهم باستهدافه وغيره من شباب الثورة العزل.

كان شريف شابا متزوجا مقبل على الحياة، حاصل على دبلوم صناعي، وكان محبوبا بين أهله وأقرانه، رزق بطفلين، محمد (5 سنوات) وشهد (3 سنوات)، وعمل كهربائيا، وكان موظفا بشركة السويس لتصنيع البترول.

يصفه والده بأن كان يحيا حياة طفولة، وأنه كان حسن الخلق، عطوفا بارا بوالديه، حريصا على إخوته، هادئا دائم الابتسام، يجتهد في ألا يغضب، وإن غضب لا يظهر ذلك عليه، وبعد زواجه لم يمنعه ذلك من تفقد والديه بشكل دوري، وتعهد احتياجاتهم، كما كان يسعى في مصالح الآخرين.

لقب في مدينته السويس بشهيد البترول، لأنه كان وحده الذي يعمل بشركة البترول من بين الشهداء.

تقول والدته، إنه كان حنونا عطوفا، لم تكن تطيق غيابه عنها لأكثر من يوم أو يومين، وفقدها له فطر قلبها، لكنها تفتخر به كونه أحد شهداء الثورة، وتستذكر كيف كان بعد زواجه وبعد سكنه، لا يتنازل عن الإفطار معها أول أيام رمضان.

بينما يعتبره شقيقه تامر، ليس مجرد أخ، وإنما كان صديقا وكاتم أسرار، وحلال مشاكل، وشريكه في فرحه وحزنه، ويرى أن موته وأقرانه من شهداء الثورة أوصل رسالة واضحة بالإصرار على الحرية، وأنه وباق الشباب سيكملون تلك الرسالة.

فيما لا تنس شقيقته ابتسامته الدائمة، وبشاشته وتبسطه في التعامل مع الدنيا، وعدم اكتراثه بها أو بما يفقده منها، وحرصه على ودها وإسعادها.

لا تنسى الأسرة جميعها كيف دخل سعيدا على والدته قبل استشهاده بأيام يزف إليها بشرى ومفاجأة، وهي أنه عازم على أن يتكفل بأدائها ووالده عمرة في القريب العاجل، إلا أن القدر لم يمهله.