بخلاف الكثيرين، لم تكن بطلة قصتنا تجزع أو تحزن حال سمعها بنبأ استشهاد أحد في سبيل طلبه الحرية والحق، بل كانت تستبشر بالأمر وتظهر غبطتها لمن جاء نبأ استشهاده، ولعل صدقها في ذلك بلغها في نهاية المطاف سبيلهم، وكان لها ما تمنت.
رقية هاشم إسلام (18 عاما) طالبة بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، من مواليد 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1995، واستشهدت في 18 مارس/آذار 2014، متأثرة بإصابتها في الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير 2011.
كانت رقية حسب شهادات صديقاتها وزميلاتها، فتاة رقيقة منذ صغرها، تحب الناس وتلين لهم، وكانت لطيبتها لا ترى الشر في أحد، وكان لا يعاملها أحد إلا وأحبها ورغب في صحبتها، فقد كانت ودودة حسنة المعشر.
كانت كذلك خفيفة الدم، ذات روح مرحة فكاهية، ومبادرة ومتقدمة ثورية، وكانت رفيقاتها يستمدون القوة والعزيمة واليقين منها، ومن ثم كان فقدها شديدا عليهم.
حصلت على الثانوية العامة من المملكة العربية السعودية خلال عمل والدها فيها، لكنها كانت أزهرية النشأة، وختمت القرآن الكريم كاملا، وسلكت مسار الإعلام رغبة في تحقيق حلمها بتغطية أخبار المظلومين وفي مقدمتهم أهل قطاع غزة.
أحبت رقية العمل الخيري، وشاركت في نشاطات مختلفة، وفي مقدمة الجهات التي عملت من خلالها، جمعية الرسالة، وكانت تحث رفيقاتها على فعل الخير والالتزام وعدم الاستسلام لرغبات الشيطان، وتتحمس لسماع عدد من الدعاة، وتتلمس مواعيد برامجهم ودروسهم وتدعو لها صديقاتها.
كان حلم رقية الذي تحكي عنه كثيرا، أن تصبح مراسلة لإحدى وسائل الإعلام في قطاع غزة، تحكي للعالم ما يحدث فيه وما يتعرض له من وحشية وظلم الاحتلال، وتنقل للجميع بطولات أهله وتضحيات أطفاله ونسائه وشيوخه.
ولذلك كان دخولها لكلية الإعلام، وما إن تجاوزت عتباتها حتى أحست أن الحلم بدأ في التحقق، لكنها لم تكن تعلم أن الحلم سيوأد في مهده، وأن عسكر بلدها هو الفاعل، ولم يدر في خلدها ولو للحظة، أن جزء من وطنها سيكون أشد حاجة لنقل الحقيقة من غيره في مرحلة ما.
شهدت رقية فض رابعة العدوية، ومن حينها غيرت بوصلة حلمها، وقررت أن تبدأ باكرا في اتخاذ خطواتها العملية، ساعدها على ذلك حبها للتصوير، فلم تترك فاعلية قريبة منها إلا وشهدتها وسعت لتصويرها، وتجتهد في أخذ الصور الجيدة من تلك الفعاليات.
وبخلاف غيرها، كانت رقية حين ترى شهيدا أو شهيدة، تستبشر وتبتسم، حيث ترى فيه فردا سبق إلى الهدف والمراد، ويعجب من يشهد معها مثل هذه المواقف، ففي الوقت الذي يعلوا فيها صوت البكاء والنحيب، يظهر تماسكها وثباتها، وكانت تتندر بالقول “أﻧﺎ ﺭﺍﺟﻞ.. أﻧﺎ ما بعيطش”.
في ذكرى الثورة الثالثة، أصابتها رصاصة الغدر في البطن، خلال مشاركتها بإحدى فعاليات إحياء الذكرى بشارع مصطفى محمود في مدينة الجيزة، وبعد عناء شديد، وصلت إلى المستشفى، وهناك أجريت لها عملية، ثم نقلت إلى منزلها.
كانت تقول لمن حولها، ها أنا ذا أصبت ولم استشهد، ألم يكن أفضل لي الشهادة من الإصابة، ولم تكن تعلم حينها أن الأجل قريب، وأن ما في الأمر عدد أنفاس لها في الدنيا لابد من استيفائها، وتمحيص وتنقية ببعض الألم الذي سينقضي ولو بعد حين.
عادت رقية إلى المستشفى مرة أخرى بعد تدهور حالتها، وخضعت لسبع عمليات، ولم تشتك رغم الألم، بل كانت حامدة مسلمة أمرها لله، ويشهد لها مرافقوها أنا لم تؤخر صلاة عن وقتها، حتى جاء الأجل يوم الثلاثاء 18 من مارس، بعد نحو شهرين من الإصابة.
ويبدو أن علاقة اتصال وثيقة جمعتها بالرقم 18، حيث كانت تنتمي لحركة شبابية ثورية، اسمها حركة 18، وحين استشهدت كانت قد أتمت عامها الثامن عشر منذ شهور، وكانت منيتها في الثامن عشر من مارس.
يحكي والدها الشيخ هاشم إسلام، كيف أن لديها إرادة قوية، وصلبة الميراس، كما كانت قوية الشكيمة، كما كانت بارة به.
يقول متأثرا، كيف أنه حال تألمها بعد الإصابة، كان يتألم لألمها ويتمنى أن يفديها بروحه، شأنه في ذلك شأن كل أب، وينقل عنها تأكيدها بعد الإصابة عدم الندم على ما قدمت، ويصف كيف أنه لم يتحمل مشهدها وهي تعاني أشد المعاناة قبل الاستشهاد.
لكنه يستدرك بالقول أن استشهاد ابنته جعله يعيش حالة إيمانية ألهمه الله فيها الرضا بقضائه وقدره، ويقول إنه يعيش أسعد أيام عمره باستشهاد ابنته رقية.
يقول الشيخ هاشم، في رسالة وجهها لابنته رقية، “أنا فخور باستشهادك وقد رفعت رأس والدك.. موعدنا الجنة وأوصيك بإيصال سلامي لنبينا محمد واسألي الله لي الثبات والحهداية للحق، وتذكريني ووالدتك وإخوتك في الجنة.. موعدنا الجنة”.
ظل أصدقاؤها أوفياء لدمها، وتتابعت الوقفات المطالبة بحق دمها في كليتها، وحرم جامعتها وتحملت زميلاتها في سبيل ذلك اعتداءات الأمن عليهم.
كما أقيمت الوقفات أمام منزلها، وكذلك أمام مقر المجلس القومي للمرأة، ولم تكتف زميلاتها ومن يعرفها بوقفات في عام استشهادها، وإنما ظلت الذكرى حاضرة في سنوات لاحقة.
كانت جنازتها حاشدة، شارك فيها المئات مرددين هتافات تؤكد الاستمرار في خط رقية، والإصرار على ألا يضيع دمها هدرا، ورأى والدها في تلك الجنازة ما يجعله فخورا بها أكثر مما كان سيكون عليه الحال حال زوجها، حسب تعبيره.