تسليم كامل “لأقدار الله وتدابيره”، ورضا بالمكتوب ويقين تام بأن ما دبره الله “خير دائما” وتخل عن “النظرة البشرية الضيقة”.. هذه خلاصة آخر كلمات بطل قصتنا قبل وفاته.
خالد أبو بكر عمر سويلم (25 عاما) من مواليد قرية “ميت مرجا سلسيل” بمحافظة الدقهلية، في الأول من يوليو/تموز 1989، نشأ وترعرع في مدينة المنزلة، وكان حين وفاته حديث التخرج من كلية الطب البيطري، وبدأ العمل في مجاله، وكان مشهودا له بالكفاءة والاتقان.
كان يجري عمليات جراحية للحيوانات رغم حداثة تخرجه، لنجابته ومهارته التي أكسبته ثقة أصحابها فيه، وهو ما كان يبشر بمستقبل واعد ويفرش طريقا لطموح مدفوع بهذه الانطلاقة القوية، إلا أن ذلك وأدته 3 رصاصات اخترقت جسده النحيل في مذبحة الحرس الجمهوري التي وقعت في الثامن من يوليو/تموز 2013.
منذ نعومة أظفاره، ارتبط خالد بالمساجد وعرف طريقها، فتعلم القرآن وعلمه في مسجد شداد المجاور لمنزله، ثم مسجد الدعوة بالمنزلة، والتزم في حلقات تعليمية إبان طفولته وبأنشطة تربوية في شبابه.
وفي هذا السياق، تحكي والدته، عن طقس من طقوسه في غرفته، حيث كان يضع سجادة الصلاة بين سريرين ليصلي قيام الليل، فيما شهد له جيرانه بحسن التزامه وحرصه على صلاة الجماعة، فضلا عن حرصه على جلسات تعليم الأطفال والفتيان وكما كان له دور في معالجة مشاكلهم وحلها، ومساعدتهم في المذاكرة.
يقول أحد زملائه في العمل، كان خالد خلال عمله بإحدى الصيدليات، حريصا على الذهاب إلى الصلوات في المسجد، وخلال أوقات راحته في الصيدلية لا تراه إلا ممسكا بالمصحف، وهو إلى جانب ذلك، دائم التفاؤل والابتسام للجميع، فيما يؤكد زميل آخر شاركه سكن الطلبة في الجامعة، بأنه لم ير منه أي شيء مزعج، خلال تشاركهما المسكن، فقد كان “إنسانا في قمة الذوق والاحترام” حسب قوله.
يتفق معه صديق آخر لخالد، وهو محمد الخريبي، الذي يؤكد أن تدين خالد حسن خلقه كان صافيا نابعا من فطرته السليمة، فهو لم يكن منتم لأي جماعة أو حركة، ومع ذلك عرف بسمته الجميل وحسن خلقه، مبديا أسفه لما حصل مع صديقه، بقوله “مثل هذه الشخصيات عندما تقتل فلابد أننا فعلنا شيئا خاطئا”.
وهو مع استقلاليته وعدم انتسابه لحركة أو جماعة أو حزب، كان صاحب موقف صلب في مناصرة الحق والدفاع عنه، لكن مع ذلك وحسب ما ذكر شقيقه أحمد، كان هادئا لينا في نقاشاته مع المخالفين، ولم يكن يتعصب خشية الجدال المذموم.
في مجال عمله وتخصصه، كان حريصا على أن يطور من نفسه ويدعم ذاته بكل ما يتطلبه ذلك من دورات وعلوم.
يحكي شقيقه عن علاقته الخاصة بكتاب الله، والتي تظهر بشكل جلي حين يضطر إلى التقصير في قراءة ورده من القرآن، حيث كان يشعر بضيق شديد، كما أنه كان حريصا على قيام الله، وفي آخر شهرين له كان مواظباً عليه بشكل ملحوظ، ينام مبكراً ويضبط المنبه ليستيقظ بهدف أداء صلاة القيام.
ومما فاجأ شقيقه أنه كان عادة ما يلوم نفسه لقلة تواصله مع الناس وتكوينه علاقات مثمرة، اتباعا للسنة وعملا بالتوجيه النبوي، إلا أنه وبعد استشهاده وقفت أسرته على اتساع دائرة معارفه، وكثرة عدد من تأثروا بفراقه في مساحاته المختلفة، من زملائه السابقين في الجامعة، ومعارفه في القرية وزملائه في العمل.
كان خالد، معروفا كذلك بنشاطه في المساحة السياسية، ووعيه المميز وإدراكه للواقع المصري، وكان على قناعة شديدة بأهمية النضال السلمي حتى تنهض مصر بشبابها، وكان مبادراً وناشطا فاعلا في مختلف المنتديات والحملات السياسية والانتخابية البرلمانية والرئاسية وكافة المسارات الديمقراطية السلمية.
تعرض لابتلاء السجن قبل ثورة يناير، إبان نشاطه الجامعي بكلية الطب البيطري في جامعة المنصورة، حيث أدخلت إدارة الجامعة بلطجية داخل الحرم الجامعي للاعتداء على من شاركوا في انتخابات اتحاد الطلاب ممن رفضوا التعاون مع الجهات الأمنية، وكان ممن تم الاعتداء عليهم خالد.
وحين ذهب لتقديم بلاغ حول هذا الاعتداء، فوجئ بأحد العمال في الجامعة قد سبقه وقدم بلاغا كيديا ضده، ليتم حبسه يومين حتى تنازل العامل عن البلاغ مقابل تنازل خالد عن بلاغه.
شارك خالد في ثورة 25 يناير 2011 من يومها الأول، وما إن وقع الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، حتى شد رحالة للمشاركة في اعتصام ميدان رابعة العدوية بالقاهرة، وأعلن أنه لن يعود حتى تعود الديمقراطية، وخلال فترة الاعتصام كان يشارك في أغلب المظاهرات التي تخرج من الميدان ويتحمل مشقة السير عشرات الكيلومترات بشكل شبه يومي.
وفي اعتصامه كان مبادراً وسباقا للأعمال دون انتظار طلب من أحد، كما أنه لم يكن يرفض طلباً للخدمة قط، سواءً في حراسة المعتصمين، أو تنظيف الخيم، أو تجهيز الطعام، أو غيره، كما كان شجاعا لا يهاب محاولات التخويف التي كانت تمارس ضد المعتصمين، ومن ذلك نظرات التحدي التي كان ينظر بها لطائرات الهليكوبتر المحلقة على ارتفاع منخفض بقصد إرهابهم.
وحين تواردت الأنباء عن احتجاز الرئيس الراحل محمد مرسي، في مقر الحرس الجمهوري، وتنادى المعتصمون لنقل جزء من اعتصامهم أم المقر، كان من السباقين إلى ذلك، وظل يستحث رفقاءه ويشحذ هممهم، وهناك، أخرج مصحفه ودعا الحاضرين لحلقة تلاوة لكتاب الله.
يقول أحد زملائه: “في نهاية يوم 8 يوليو 2013، كنا في حراسة للمعتصمين أمام المقر، وكان خالد هو مسؤول المجموعة التي هو فيها، وفي حدود الساعة الثالثة فجرا، ورد لخالد أنباء عن تقدم قوات من الجيش والشرطة ناحية المدخل الذي يقفون للحراسة عنده”.
يتابع المتحدث، “جاء إلينا من بعيد بابتسامة لم نرها عليه من قبل، وهو متوضئ للصلاة، وحين قلت إن هناك مدرعات ستأتي إلى هنا ولابد من الوقوف، قال سنصلى الفجر أولا كي تكون الصلاة آخر عمل نقوم به في الدنيا” وكأنه كان يشعر بدنو الأجل، وحين وقفنا نصلي أمام حاجز التفتيش، وبعد تكبيرة الإحرام فوجئنا بضرب النار وقنابل الغاز ولم نستطع إكمال الصلاة وتفرقنا.
يمضي المتحدث في سرد المشهد: “ثبت خالد في مكانه بالصفوف الأولى، وهو لا يزال على حاله مسالما أعزل لا يحمل سلاحا، ورغم كثافة الضرب لم يتراجع، ومع وقوع إصابات وقتلى قمنا بحمل الجرحى ونقلهم للسيارات، وبينما خالد يساعد في نقل الجرحى والشهداء تلقى رصاصة غدر آثمة من قناصة الجيش”.
استشهد خالد ضمن العشرات ممن قضوا في هذه المذبحة الأليمة، ونقل جثمانه إلى قريته ميت سلسيل، التي احتشد أهلها ومعهم أهل المنزلة التي كان مقيما بها، وكان مشهد الوداع مهيبا، خلال تشييعه إلى مثواه الأخير في مقابر القرية.