تقول والدة أحمد شريف محمد محيي الدين ضاحي (18 عامًا) إنه كان يستحوذ على كل اهتمامها في البيت، فتظل تُراعيه من استيقاظه من النوم صباحًا حتة نومه مساء، مُضيفة أنه كان: “قلبي وبسمة حياتي وبيتي”.
ولذلك فمنذ أن غاب من بعد صلاته الجمعة من يوم 28 من يناير/كانون الثاني 2011م (جمعة الغضب) حتى صباح الأحد التالي وهي مطمئنة لعودته إلى حضنها، وفيما يُصبرها مَنْ حولها كانت تؤكد لهم أنه عائد بالسلامة، وأقصى تقدير للخطر الذي يمكن أن يكون أصابه لديها، هو إصابته أو حتى اعتقاله.
بعد قليل قال لها عمه: “اقرأي سورة يس بنية أن يرده الله إليك”، لم تنه الوالدة قراءة السورة إلا وسمعت ضوضاء أسفل بيتها في شارع فرج المتفرع من شارع المأمون بمحافظة الجيزة بحسب تقرير لمنظمة إعلاميون حول العالم ـ 24 من يناير 2017م، ولما نظرت من النافذة رأت الجميع يبكي، وأصدقاء نجلها يلطمون ويضربون وجههم بأيديهم بقوة، نزلت مسرعة مُتجهة إلى مشرحة مستشفى القصر العيني القديم ظانة أنها تستطيع رؤية نجلها لكنها وقفت في مكانها متجمدة غير قادرة على التحرك لتراه.
حلم الراحل أن يكون شهيدًا؛ ولذلك بعد إنهائه تعليمه الثانوي ورغم مجموعه الكبير أراد أن يلتحق بإحدى كليتيّ الشرطة أو الحربية، وتقول والدته ان حلمه بدخول الكلية الأولى كان أكبر حتى أنها قالت له: “أنت كبير شقيقتيك أمنية (بالصف الأول الثانوي) وإيمان (بنهاية المرحلة الابتدائية قبيل رحيل شقيقيهم عن الحياة)، وليس لك (دخول) جيش من الأساس، أفتريد أن تدخل البلد كلها في حرب من أجل أن تموت شهيدًا؟!”.
رسب أحمد في اختبار الدخول لكليتيّ الشرطة والحربية إلا أنه بحسب رواية نجل خالته عمرو، كان ينوي تكرار الدخول في اختبار كلية الشرطة في العام التالي، إذ تمنى أن يموت وهو يُدافع عن بلده.
لما حدثته والدته عن شهداء فلسطين اهتم بشدة، وقال لها: “إذًا أكون مثل هؤلاء”، وحضر آخر امتحانات الفصل الدراسي الأول في كليته وأثناء عودته إلى البيت قرب مساء الخميس 27 من يناير/كانون الثاني كان يسمع الشباب يقولون لبعضهم: “موعدنا غدًا بميدان التحرير”، فلما عاد للمنزل قال لوالدته: “غدًا أنزل معهم”، فقالت له: “إذا كان طول جلوسك على الحاسب الآلي (الكمبيوتر) لوقت طويل؛ ومتابعتك لأحداث تونس ونجاح ثورتها يجعلك تظن أن ذلك قابل للتكرار في مصر؛ فيجب أن تتناسى الأمر تمامًا لإنه لا شيء سيحدث هنا، ولن يتغير النظام، ونحن ليس (كأسرة) لنا بعد والدك إلا أنت؛ فلن أسمح لك بالنزول”.
وتضيف والدته بحسب الفيديو المرفوع من قناة الجزيرة مباشر في 26 من أغسطس/آب 2011م، إنها كانت خائفة على وحيدها من الذكور ككل والدة، ذهب الفقيد إلى صلاة الجمعة ثم عاد، حاول الاستئذان من والدته فرفضت مُجددًا، وقالت له: “إن نادى عليك أصدقاؤك لتذهب معهم لميدان التحرير، فسأرد عليهم بالرفض بنفسي من البلكونة (الشرفة)”؛ بالفعل دخل الراحل إلى الشرفة، وخرج بعد قليل قائلًا لوالده هذه المرة: “سأخرج قليلًا أمام البيت ثم أعود”، ولم يصطحب معه نقودًا ليُوهم أهله أنه لن يذهب بعيدًا.
مع أصدقائه الثوريين سار أحمد للمرة الاولى في حياته إلى مظاهرة، وسألهم في الطريق: “إذا متنا هنا.. هل نُعتبر شهداء؟”، فأجابوه بأنهم لا يعرفون”، فظل يبحث في الناس من حوله حتى وجد شيخًا بزيه الأزهري المعروف، فذهب إليه وسأله نفس السؤال فقال له: “من أعلى مراتب الشهداء أن نقوم إلى حاكم ظالم فننهاه فيقتلنا، بحسب معنى الحديث الشريف.. وهو ما نقوم به جميعًا هنا” (نص الحديث رواه الحاكم وصححه هو والألباني).
كان أحمد مع رفاقه يسعفون المصابين فيدخلون الميدان من ناحية المتحف المصري ثم يتراجعون بعد أن يتعبهم الغاز المسيل للدموع، وفي المرة الأخيرة أصاب الرصاص المطاطي ظهره، مما جعله يخلع جزءًا من ثيابه انصهر على ظهره من أثر المطاطي؛ ولأن أصوله صعيدية تضيف والدته: “تخيلتُ أنه أصر على أخذ حقه فلم يستجب لصديقه الذي قال له إن الأجواء في الميدان تتغير (نحو الأعنف من الأمن) ويُفضل أن نخرج، فدخل متوغلًا أكثر حتى لمحه قناص فصوب عليه مدفعه ليصيبه برصاصة في الصدر، فيما كان إلى جواره أحمد بسيوني الذي صور المشهد، ولكن القناص رآه فأرداه قتيلًا برصاصة أخرى، ثم مرت سيارة الشرطة من فوق جسديهما. فذهبت الكاميرا بالصور.
لم يعد الراحل أحمد شريف إلى أسرته في نهاية اليوم، ولا في يوم السبت، وبحث والده، المدير العام في مجلس الشعب، عنه في المستشفيات فلم يجده، ويوم الأحد يروي أنه ذهب للميدان وسأل عنه فنفى الثوار معرفتهم به، وأذاعوا اسمه على المنصة فلم يرد أحد، فذهب إلى مستشفى القصر العيني الجديد (الفرنساوي) ليجد أربع أوراق ممتلئة بأسماء القتلى وجهًا وظهرًا؛ فانتبه إلى فداحة كذب الإعلام المصري آنذاك الذي كان يقول إن الاوضاع بخير، ثم ذهب للمستشفى القديم ليجد اسم نجله في المشرحة، وليعرفه بقدمه بعد انطماس معالم جسده، وليسقط على الأرض ويقوم إذ خُيلَ إليه أن الراحل يُحدثه ويُثبته.
دُفِنَ أحمد في مقابر الإمام الشافعي؛ ولاحقًا قال عنه وليد نجل خالته إنه كان مُحبًا لكرة القدم ولجميع الناس من حوله؛ وقامت أسرته بالعمرة بالنيابة عنه، وصرحت والدته بأنها ستقوم أيضًا بأداء فريضة الحج مع الأسرة عن أنفسهم، ثم ترحمًا على روحه.