أنس حمدان.. صاحب الوصية

لم يهدأ له بال حتى كتب وصية تتضمن ما عليه من ديون لا تتجاوز عشرات الجنيهات قبل يوم رحيله بأسبوعين، وما نسي إدراجه فيها تداركه خلال تواجده في الميدان، وسعى إلى تسديده حتى يكون مرتاح البال وهو يسعى بجد لنيل الشهادة.

أنس حمدان محفوظ (21 سنة) طالب كلية طب الإسنان بجامعة الأزهر، والحافظ لكتاب الله، البار بوالديه، المحب لوطنه ودينه، اختار الله له أن تنتهي رحلته القصيرة في الحياة برصاص العسكر يوم الإثنين 8 يوليو/ تموز 2013م فيما عرف بمذبحة الحرس الجمهوري، الذي راح ضحيتها العشرات من معتصمي ميدان رابعة العدوية.

كان أنس قليل الكلام كثير العمل، ذو ذكاء ملحوظ، وقلب نقي، وكان من أوائل طلاب الأزهر في مراحله الدراسية المختلفة، مشهود له بحسن الخلق والأدب، كما أنه كان شجاعا مقداما، محباً لدينه ووطنه، لا يغيب عن أي فعالية ثورية تدعم حق بلاده في الحرية، كما عرف بنشاطه في العمل الطلابي.

كان أنس من مواليد مدينة المنصورة في الأول من أكتوبر 1992م، له 3 أشقاء ترتيبه الثالث بينهم، أنهى سنته الثالثة في كلية طب الأسنان بجامعة الأزهر، وظهرت نتيجته فيها بالتزامن مع استشهاده، حيث حصل على تقدير امتياز وحصل على الترتيب الخامس بين أبناء دفعته.

كان إضافة إلى ذلك، بارعا في حرفة صيانة الأجهزة الكهربائية، حيث كان يساعد والده في العمل بهذا المجال، ويعمل بها خلال أجازته الصيفية ليعين أسرته على مصاريفهم واحتياجاتهم، كما عرف بتميزه في العديد من المجالات، وكان متقنا لحفظ القرآن كما كان متفوقا في دراسته.

يقول والده: “أنس منذ طفولته وهو هادئ مؤدب، كان مميزاً في حفظ القرآن حتى أتمه كاملاً بفضل الله وتوفيقه، وعرف بحرصه وذكاءه، وكان مميزا بأخلاقه داخل المنزل، وكان يحب العمل معي في صيانة الأجهزة الكهربائية، وكشف العمل عن نبوغه وإجادته، كما كان متفوقاً في أشياء كثيرة”.

فما تصفه والدته بأنه ” كان عملة نادرة، يملك قدرا عاليا من الحنان، ولا يحب التحدث عن نفسه، وكان قوي الشخصية دقيقا في شئونه، وكان يطمح لأن يعين أستاذاً في الجامعة”.

بينما يتذكر له عمرو حمدي (أحد أصدقائه)، بـأنه لم لا يحمل ضغينة تجاه الآخرين، وأنه يسارع في مساعدة من يتعرض لأي مشكلة أو أزمة من أصدقاءه ويقف إلى جوار أي قاصد له في وقت الشدة.

فيما يقول محمد عبد العزيز (صديق آخر)، إن أنس كان دؤوباً في عمل الخير، كثير الصحبة، أحبه الملتزمون وغيرهم، وكان غيورا على وطنه، ودفعه ذلك للخروج في مظاهرات ثورة 25 يناير، كما شارك في معظم الفعاليات الثورية التي كانت من تداعيات الثورة، وكذلك التي نظمت لرفض الانقلاب العسكري.

بينما يقول جاره إبراهيم الفقي، إن أنس “كان شخصا مختلفا.. كان وحده بين الشباب من يلتزم الانضباط حال سفرنا ولهونا، وكان أحدنا يتحرج من الوقوع في الخطأ في حضوره احتراما وتقديرا له، وحين استشهد الشيخ أحمد ياسين، حزن بشدة لكنه تمنى أن تكون موتته مثله، وينال الشهادة عقب صلاة الفجر، وقد كان له ما تمنى”

وخلال أحداث قصر الاتحادية التي وقعت في ديسمبر/كانون أول 2012 أصيب بحجر في رأسه، وكاد أن يتعرض للموت نتيجة مهاجمة مجموعة بلطجية لمجموعة كان فيها برصاص الخرطوش والحجارة، لكنه أصيب بإغماءة وفقد الوعي.

يحكي شقيقه أسامة كيف أنه لحق سريعا باعتصام رابعة العدوية، وشارك مع أسرته في الاعتصام بالميدان، وقال له في عزم وجزم، “لن أعود من رابعة إلا بعودة الدكتور محمد مرسي أو أموت شهيداً”، واستحضر مثالا لشجاعته، حيث كان حين يسمع بوجود بلطجية يعتدون على الميدان، يسارع للتوجه إلى النقطة التي يتواجدون فيها.

كتب أنس وصيته يوم 21 يونيو، أي قبل استشهاده بنحو أسبوعين، وتضمنت ما عليه من ديون لا تكاد تتجاوز عشرات الجنيهات، كما تضمنت عبارات وجهها لوالديه وإخوته يعبر لهم فيها عن حبه لهم، وكذلك حبه للشهادة، وتركها في المنزل لوالدته.

فجر الإثنين الثامن من يوليو 2013، يوم مذبحة الحرس الجمهوري بحق المصلين والمعتصمين أمام نادي الحرس، كان أنس مع والده في ميدان رابعة العدوية في ذلك التوقيت، يردد أذكار الصباح، وحين وصلت الأنباء للمعتصمين في الميدان بما يحدث أمام نادي الحرس، انتفض مسرعاً نحو المكان.

وحسب شهادات معتصمين، حين وصل أنس إلى موقع الأحداث كان جريئاً ومقداماً في أول الصفوف، ولم يلبث أن تلقى رصاصتين في البطن خرجت من ظهره، واحدثت تهتكاً في الأمعاء والكليتين والرئة.

يحكي والده “جاءني اتصال يخبرني بأن ابني أنس أصيب ونقل للمستشفى التأمين الصحي، فأسرعت إلى هناك، واستطعت بعد صعوبات الدخول، وكان الوقت حينها السادسة والنصف صباحاً، وأخبروني أنه في غرفة العمليات، وانتظرنا حتى خرج من العمليات إلى غرفة العناية المركزة، وظل حتى تلقينا نبأ استشهاده في الساعة الواحدة والنصف ظهراً.

خرج الوالد المكلوم بجثمان فلذة كبده من القاهرة إلى المنصورة بعد معاناة وتعنت ورفض تسليم تقرير بالسبب الحقيقي للوفاة، وعصر الثلاثاء، خرج الآلاف من أهالي محافظة الدقهلية لوداعه في جنازة مهيبة من أمام استاد جامعة المنصورة بحضور رموز وقيادات المعارضة بالدقهلية، ومحافظها السابق الدكتور صبحي عطية.

لم يفاجأ كثيرون باصطفاء أنس، فهو حسبما كتب أحد رفقاءه “من شباب مصر الطاهر..  رجل في زمن العبيد وأشباه الرجال”، لذا لم يكن غريبا كذلك أن تسارع أسرته التي ربّته على ذلك إلى العودة للميدان بعدما تلقيها العزاء فيه لاستكمال رسالته، وظلوا حتى فض الميدان التي أصيب فيها والد أنس برصاصة اخترقت صدره.